يتحدث مالك بن نبي من خلال هذه الصفات عن تجربة شخص عايش صراعاً فكرياً. وهذه التجربة ليست إلا جزءاً ضئيلاً من واقع الصراع الفكري... لأن القول محدود بطبيعته في موضوع كهذا، فهناك موضوعات محرمة، قد أحاطها العرف بسياج من الاعتبارات التي لا تترك مجالاً كبيراً إلى القول، لأن الناس الذين أشار إليهم بن نبي في هذه الصفحات، والذين تعرف إليهم ودرس مواقفهم العامة في بلاد مستعمرة، خلال ما يزيد على ربع قرن، لا زالوا على قيد الحياة، ولولا ضرورات الصراع الفكري ذاته لما أشار لأحدهم، ولا ذكر تفصيلاً من التفاصيل التي تتضمنها تجربة شخص معين...
والأفكار ليست منفصلة في عالم الأشخاص، بل إن ملحمتها تجري كلها على الأرض، حتى يصعب فصل مغامرة (فكرة) عن مغامرة صاحبها فصلاً تاماً ويلخص بن نبي هذه الاعتبارات بالقول: إن الاستعمار يسعى أولاً أن يجعل من الفرد خائناً ضد المجتمع الذي يعيش فيه، فإن لم يستطع فإنه يحاول أن يحقق خيانة المجتمع لهذا الفرد على يد بعض الأشرار...
ومهما يكن من أمر، فإن هناك حقائق لا يملك النطق بها إلا من واراه التراب، وتحصنت أقواله بالموت، كما أن هناك أقوالاً لا تقال في كل الظروف، وفي مثل هذا الموقف يتعرض الضمير لنقاش حرج، عندما يكون المرء بحيث يستغل الاستعمار كلامه كما يستغل صحته.
فهذه الصفحات تعد إذن محاولة للتوفيق بين واجب الصمت وواجب الكلام، ولعل القارئ الشاب يجد فيها المنبه الذي يلفت نظره إلى واقع الصراع الفكري، ويكفيه أن يفتح عينيه لكي يرى بنفسه إمارات هذا الصراع قائمة حوله.